(كُتب هذا المقال في آذار\\نيسان. ترجمة: أسامة إسبر)
(Read English Version here)
بعد أربع سنوات من القتل والتدمير، ليس هناك أسئلة سهلة في سوريا. ذلك أن الحلول الليبرالية المطروحة لا تفتقر للواقعية فحسب، بل هي أيضاً متضمنة في وجهات نظر عالمية غير ناضجة عن الحرية والعدالة والتنمية والعلاقات الدولية وحتى الكرامة الإنسانية، وهذه مصطلحات يدور الجدل حولها. ما من معسكر مهم يقترب من النقاء، وليس هناك معسكر محصن من الأخطاء، وحتى من السلوك الجدير بالازدراء. لكنّ المجموعات التي لا يلوّثها هذا الواقع القاسي (الرجال والنساء السوريون الأبطال الذين يواصلون حياتهم اليومية خارج قيود النزعة الحربية والعنف والتحزب الأعمى) مهمّشة ومنسية حتى وهي تحمل بقايا البلاد نحو الأمام. إنهم الأفراد الأقوياء والمجهولون الذين يُبْقون سوريا على قيد الحياة، تحت القنابل والسكاكين وهجوم الحلول والأحاديث الدولية؛ إنهم مستقبل سوريا التي تُواصل احتراقها، فيما ينظر المستفيدون الأساسيون متظاهرين بعدم الانخراط أو بالمشاركة البناءة.
لا يخصّ الإعلام الدولي السوريين المعنيين بانتباه كبير، ويحاول أطراف الصراع التلاعب بهم، وينكر كثير من المراقبين وجودهم خشية أن يتبيّن أن هناك بالفعل أشخاصاً في سوريا قرفوا من النظام أو صاروا لامبالين به وبكل بدائله المحتملة، ويتحيّنون الفرصة كي يعيدوا بناء بلدهم ويباشروا الحياة من جديد. في غضون ذلك، إن الشلل التقريبي الذي يشعر به كثيرون أمام نمط الأسئلة التي لا تتوقف كمثل “ما العمل؟” واقعي وكريه. ذلك أنّ التعرف على المجرم الحقيقي، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يعرفون تاريخ القمع في سوريا قبل 2011، يمكن أن يكون تطهيرياً. على أي حال، لم يعد مرضياً أو ذا مغزى، خاصة أن المنافسين يبزغون، حتى ولو ببيانات سيرة أقصر. فالوقائع الكريهة على الأرض، والعلاقات المعقدة والخداع الاستراتيجي، التي تحوّل عدو الشعب إلى شريك، والمدافعين عن الشعب إلى متواطئين مع القوى الخارجية، بالإضافة إلى غياب أي سيناريو للحل واضح ومعقول أو حصان للمراهنة عليه، كل هذه الأمور تترك الإنسان المفكر في حالة يأس غير مقبولة كما هو ذلك المصير المؤقت.
إن حجة “الشر الأقل” غير مقنعة. فهناك تعادل واضح في “الشر” يسود بدلاً من ذلك. ويمكن أن يفترض المرء أن العنف اللاعقلاني والعبثي الذي يمزق المزيد من أجساد الكائنات البشرية بالسكاكين والبراميل المتفجرة يجب أن ينتهي، ويصل إلى نهاية. لكن منطقاً كهذا ينتمي إلى حقول أخلاقية غير متوفرة في هذا الصراع أو في المصالح العالمية.
إن أي تقويم رسمي للاعبين المنخرطين من جميع الأطراف داخل سوريا، مع أو بدون رعاتهم، يقود كثيراً من المراقبين المطلعين إلى درجات مختلفة من اليأس، وسط مأزق سلطوي وإقليمي مهيمن، يبني الحقائق على الأرض، كمثل المستوطنات المقيتة غير القانونية في جنوب سوريا. والزمن يتقدم لجعل المكان والمقت أكثر واقعية.
تتكاثر خارج سوريا المؤتمرات والمشاغل حول مصير سوريا، وتُعامل خطط بناء السيناريوهات المدعومة الناس كأشياء في ألعاب فيديو؛ أما جهود حقوق الإنسان فغالباً ما تحفّزها الخطيئة أكثر من المسؤولية، أو ينفّذها فاعلون يحرّك صلتهم بسوريا التمويل أكثر من الرسالة الأخلاقية. إن كثيرين منا مذنبون بارتكاب أحد هذه الأفعال أو أفعال مشابهة ولو بطرق مختلفة. فالعجز يبلبلنا ويؤذي حكمنا وتصميمنا الجماعي الآن. ذلك أن الفوضى والبؤس يعمّان بلاداً شُرِّدَ نصف سكانها وقُتل 1٪ من سكانها تقريباً، أي ما يعادل أكثر من 3 ملايين من سكان أميركا وفقاً لهذه النسبة. وما كان مزعجاً أكثر في هذا العام الأخير هو اللامبالاة المتزايدة التي نظر بها السكان في المنطقة وخارجها إلى هذا الدمار. فيما أكتب هذا في بيروت، على بعد رمية حجر من ساحات القتال الملتهبة وقذارة مخيمات اللجوء، من السهل تأكيد هذا فيما الحياة تتواصل. لكن السؤال المطروح ثانية هو: ماذا يفعل الناس؟ بمن يستنجدون؟ على من يمارسون الضغط والتأثير؟ من يهاجمون؟ ففي خلفيّةٍ الجميع ملعونون فيها تقريباً، بشكل ينطوي على مفارقة، لا شيء يبزغ إلا المشكلة التي سيشكل اختفاؤها ترياقاً.
…
ما من أسئلة سهلة في سوريا. كيف ستنتهي الأمور؟ ما هي “النهاية”؟ هل هي بداية دولة قومية أخرى قمعية، ونيوليبرالية وبطريركية مركبة من جديد وبالكاد مموّهة؟
مفارقة الكارثة
ليس هناك أسئلة سهلة في سوريا. ورغم أن هذا غير مفاجئ، إلا أن الغالبية لا تُقارب على ما يبدو المأساة السورية بهذه الطريقة. ما يتبع ليس وصفةً بقدر ما هو تحذير ضد تكرار الأخطاء نفسها حين ندعو إلى حلول. وإذا كانت رؤية المرء ضبابية حيال أي طريق يسلك، أو أي مزيج من القوى يدعم، إلا أنه ينبغي أن يكون حازماً في فهم الخطأ الذي حصل، والعبر التي يمكن استخلاصها، حتى لو تعلمنا منها بشكل مختلف. وبالنسبة لمن هم على صلة بالعائلة والأصدقاء والصحفيين والكتاب، وعلى اطلاع على المنشورات في سوريا وعنها، لا شك أن كثيرين في الطرفين المتضادين للخطاب حول سوريا وصلوا إلى بعض التصورات المتشابهة سواء كانوا يجاهرون بها علناً أم لا، أو يدعمون محتواها.
إن مفارقة عدم امتلاك أسئلة سهلة في سوريا هي أن المَخْرَج من هذه المصيبة السورية يمكن أن يتضمن جميع الفاعلين الخطأ، لكن على نحو متزامن.
دروس تعلّمناها: فنّ عدم الرجوع إلى الوراء
بعيداً عن طرح الآراء بشكل دوجماطيقي، ورغم الدمار والألم والعداوات الشخصية، والخلافات السياسية والنظرات النمطية يجب ألا ننسى ما تعلمناه عن اللاعبين الرئيسيين والقوى المنخرطة؛ وكيف أدت الدعوات إلى ثورة مفتوحة إلى التدمير؛ وكيف أهمل البعض المستقبل عبْر دعم أي شيء يتحرك ضد النظام؛ وفضلاً عن ذلك، كيف وصلنا إلى هنا، ومن يتحمل المسؤولية الرئيسية عن هذا.
هناك شرطان لجردٍ كهذا. أولاً، إن التحدي الذي يواجه معالجة العبر التي تم استخلاصها هو تجنب التشخيصات “السوداء والبيضاء”. إن تغايراً كهذا هو غير واقعي وغير منتج في آن. وعادة ما يكون فقدان المناطق الرمادية خطأ تحليلي لأن تلك المناطق الرمادية نفسها تحفّز حجج الذامين، وأحياناً لسبب جيد. ثانياً، من غير المفيد أن نرى الأشياء كلها رمادية بشكل مساو. إنها ليست هكذا. ثمة تراتبية في المسؤولية، وتستقر عادة عند الذين يستلمون السلطة، سواء محلياً، إقليمياً، و\\أو عالمياً.
هكذا، لا نستطيع التوقف عند تحميل المسؤولية للنظام في سوريا، نحتاج أيضاً إلى أن نحمّل المسؤولية لقوى معينة أكبر على المستوى الإقليمي والدولي، ولدورها في إنتاج الفوضى والعنف في سوريا وخارجها. ويتولّد الكثير من الخلافات من تركيز الناس (المحللون، “الخبراء”، والعاديون) على طرف واحد، أو مجموعة من المشكلات والأسباب والفاعلين، كما قلتُ سابقاً، وهم في هذا يحاكون مُنتَجاً هوليودياً يشجبه كثير من الأشخاص أنفسهم. إن العدسات الليبرالية الإشكالية الأخرى هي النظر إلى كل الأطراف على نحو سيئ بشكل مساو، دون اعتراف بالقدرة الجهازية لإحلال أذى بنيوي مستند إلى فروق سلطوية وآليات استغلال.
النظام السوري
يجب ألا نغفل الميراث المتواصل لوحشية النظام السوري بصرف النظر عن كلامه عن المقاومة أو دعمه للمقاومة في أوقات مضتْ. ولو أنّ هذا النظام القوي جعل من أولوياته هزيمة السياسة العدوانية الإسرائيلية والإمبريالية الأميركية، وتواطؤ الأنظمة العربية المحافظة، لاستغلّ الأعوام الأربعين الماضية في بناء دولة غير قابلة للاختراق من قِبَل تلك الدول والمصالح نفسها التي سبّبتْ بشكل مباشر أو غير مباشر الفوضى في سوريا، بما فيه المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا والولايات المتحدة الأميركية. أكيد أننا نستطيع أن نذكر حقائق اكتفاء غذائي ذاتي نسبي، و“سلم أهلي” (المفروض تقريباً)، واليسير من المساواة الاقتصادية في توزيع الثروات الاجتماعية في السنوات الأولى من حكم البعث. على أي حال، بصرف النظر عن هذه الحقائق خنق النظام السوري الشعب سياسياً، وفرض قمعاً نيوليبرالياً شرساً امتصّ دماء معظم السوريين، على مدى أربعين سنة. وبين 1970 وآذار 2011، وخاصة بعد 1982، حقّق النظام السوري ما يمكن اعتباره سيطرةً لا تُضاهى على سكانه، وقد قال البعض متهكمين إنه حتى البعوض كان مُراقَباً.
كان يمكن أن تشكِّل تلك الفترة، ذلك الجيل بأكمله، فرصة لإعلان التحدي الحقيقي لجميع المجرمين الذين زعم النظام أنه يحاربهم، سواء داخلياً أو خارجياً، بشعاراته وعناوينه الاشتراكية المضادة للإمبريالية. بدلاً من ذلك، ملأ النظام سجونه الكثيرة بالماركسيين والاشتراكيين والقوميين وبأي صوت مستقل جسّد فعلياً، وليس فقط لغوياً، المبادئ التي جاهر بها النظام. وكان الفرق هو أن أولئك الأفراد تجاسروا على التعبير عن هذه المبادئ، أو تحميل النظام مسؤولية التخلي عنهم. بدلاً من ذلك، فرض الرجال الأقوياء في سوريا، عبر الأفرع الأمنية والسياسات التي تبنوها وعرفوها جيداً، قمعاً وخوفاً يومياً وعلى مدار الساعة، وقد تواصل هذا القمع، الذي يعجز المرء عن وصفه، لعقود وذلك في أوقات ما دعي بـ “السلم الأهلي”. وكان الرجال والنساء الكبار يتبوّلون في ثيابهم من الخوف أمام عائلاتهم حين يقوم رجل أمن بزيارة منزلهم في الليل كي يطرح أسئلة، وهؤلاء هم المحظوظون. إن صوراً كهذه هي إشارة فحسب إلى حالة الشؤون المحلية التي وسمتْ فترة الأربعين سنة لأي شخص يمتلك تطلعات عامة تختلف ولو بشكل ضئيل عن تطلعات النظام. وقد راكم هذا على مدى عقود كثيرة التوترات والاستياءات والنزعات الانتقامية المكبوتة. إن التوثيق غزير ولم تكن ممارسات كهذه تتعلق جوهرياً بأية قيمة مرتبطة بمحاربة إسرائيل والإمبريالية أو التدخل الخارجي.
فضلاً عن ذلك، إن برجوازية النظام أو النخبة الحاكمة، والتي بزغتْ بشكل كامل بعد الثمانينات، من العائلة العليا إلى مسؤولي الدولة والشركاء الراغبين في القطاع “الخاص”، نهبت الموارد التي كان يمكن أن تبني صناعات مهمة، وتحسّن التعليم، وتُنهي الفقر، وتغذي السوريين لأجيال قادمة. بدلاً من ذلك، بُدِّدَ كثير من هذه الموارد لبناء وتوريط طبقة حاكمة متواطئة. وفي 2005، كانت هذه الطبقة أو النخبة (لا تتلاءم مع تعريف كلاسيكي) أداة في استدعاء جرعات التنمية من بعيد، من خارج حدود الدولة. وكانت هذه هي الحالة لأن النظام وقتها كان قد “تَبَرْجَزَ” بشكل كبير (أستعير المصطلح من البروفسور ريموند هينيبوش ـ “لوموه هو”) بحيث أن مصلحته الاجتماعية والاقتصادية لم تكن قابلة للتمييز عن مصلحة الرأسماليين المتواطئين إلا بلاغياً، أو في أوقات الأزمات الحادة. وحتى الحرس القديم المحافظ الذي فضّل الاحتفاظ بقطاع عام كبير كان مختلفاً فحسب حول هوية أولئك الذين يجب أن يستولوا على الثروة الخاصة، ولم يكن مختلفاً حول السيرورة المعنية.
وكما شلَّ شِحُّ المطر والجفاف الناجم عن ذلك الريف أثناء معظم العقد السابق، ترك النظام السوري في ذلك الوقت الجزء الأكبر من سكانه، المهمل اجتماعياً واقتصادياً، في الخارج كي يجف. ويزعم النظام ومفكروه أنهم حافظوا على مستوى من الخدمات لمنع الفقر الشديد ذا القاعدة العريضة. لكن هذا غير صحيح . وفي نهاية العقد الأخير، فقد السرد “حول المساواة” كلَّ بخاره بعد رفع الدعم الجوهري (وخاصة عن النفط\\الطاقة)، وهذا اتجاه كان من المحتمل أن يتواصل بسبب التوجه النيوليبرالي للنظام. وكل ما استطاع الناس أن يشاهدوه في نهاية العقد هو التناقض الشديد بين مصيرهم ومصير القلة التي هيمنت على الفضاء العام والخاص وعلى الموارد وحتى على الحياة نفسها في سوريا.
لقد تجلى كلُّ ما ذكرناه أعلاه في خدمة بقاء النظام، على حساب جميع المبادئ المعروفة للنوع البشري، بما فيه الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، والمعاداة للإمبريالية، ومقاومة الاستبداد والاستغلال في كل أشكالها. إن الذين يدعمون الطلاء الاشتراكي والخاص بالمقاومة كدفاع مقنع عن النظام السوري (وثمة بعض الأسس لزعم كهذا) هم إما متواطئون في جرائم النظام أو غير مطلعين على تاريخ سوريا الحديث والمقايضات التي تمت، حتى مع الفاعلين الرجعيين أنفسهم الذين يتهمهم النظام السوري الآن بالتآمر ضده.
أخيراً، وكما يذكرنا ذلك السطر في فيلم “سكارفيس”:”انظرْ إلى نفسك الآن”، لماذا سيسمح النظام السوري لهذا أن يحدث في ما هو من المفترض المعقل التاريخي الأخير المضاد للإمبريالية في المنطقة؟ حسناً، لأن المعاداة للإمبريالية كانت دوماً تقع في المرتبة الثانية، لأن الأولوية هي بقاء النظام (بأية وسيلة ممكنة). بالتالي، لا يوجد الكثير لمناقشته في النهاية. إن أوراق الاعتماد القومية العالية نسبياً (بالمقارنة مع أنظمة عربية أخرى)، التي جمعها نظام الأسد عبر سنوات، تبددت منهجياً من خلال معاملته لمواطنيه. وهكذا فإن معظم تلك الأجزاء من المجتمع السوري التي تواصل الوقوف مع النظام تفعل ذلك بسبب خيار عقلاني، مفكرة بالبدائل، وليس انطلاقاً من اعتقادها بما يمثله النظام. إن الكلام الذي يكرره غالباً كثير من السوريين مثل: “كنا في وضع جيد ومرتاحين”، ينطبق على جزء اجتماعي اقتصادي صغير، كان محظوظاً اجتماعياً ومعتاداً على شكل محدود من المواطنة. وربما لم تكن سوريا ناضجة بشكل كامل لانتفاضة عفوية في ٢٠١١، لكن بما أن واحدة قد بدأت، سواء بالنبل أو بالاحتيال، فقد كان مقدّراً عليها أن تلتقط ناراً وافرة لأن النظام كان يصبّ النفط على سكانه لعقود.
حلفاء النظام
لا تشكل الدول الحليفة لسوريا، التي تدعم النظام الحالي (إيران، روسيا، والصين إلى حد ما) خيبة أمل كبيرة، بما أنها لا تدعي القتال من أجل الديمقراطية (في الوطن أو في الخارج) أو من أجل الثورة السورية. والواقع أنها لا تدعي القتال من أجل أي شيء رفيع فيما يتعلق بسوريا. فسجلاتها في القمع والاستغلال والعدوان التي تستحقّ الشجب، رغم وجود بعض الفروق، لم تجعلها منافسة لكثيرين في ذلك الصدد. لا أحد في سوريا أو خارجها طلب مساعدتها، مفترضاً أن هذه الدول تستطيع مساعدة السوريين في صراعهم ضد الديكتاتورية. بالمقارنة، شعر حزب الله بأنه مرغم على القتال إلى جانب الرئيس السوري بعد أن كان يراقب من الخطوط الجانبية ولهذا فقد مصداقية أخلاقية مهمة خارج دائرته المباشرة من الأنصار. وكان هذا نتيجة مباشرة لمشاركته في ما تراه الغالبية مناقضاً بشدة لقيمه المعلنة، مهما كانت مبررات التدخل. (في الحقيقة إن تبرير حزب الله للتدخل مرَّ في صيغ متكررة مختلفة بدءاً من قائمة صغيرة من المبررات وانتهاء بحجج تشير إلى التهديد الإقليمي لصعود لافت لتنظيم الدولة الإسلامية و”الجهاديين”). مع ذلك، رغم النقد والشجب على نطاق واسع، ما يبقى من قوة حزب الله العسكرية ورأسماله الأخلاقي هو احتمال قدرته على ردع العدوان التوسعي والتطهير العرقي الإسرائيلي، فقط مع شريك سوري مُدَمَّر تقريباً الآن. إن الذين ينكرون هذا الدور يفعلون ذلك للسبب الخطأ، ذلك أن صانعي القرار في إسرائيل لا يكترثون بـ “نقاء” حزب الله، ويهتمون أكثر بكثير بقدرته المعززة منذ ٢٠٠٦ القادرة على إلحاق الأذى والعمل كرادع حقيقي، على الأقل في الوقت الحالي. إن محاولات تنقية أو إنكار دور حزب الله في المقاومة بشكل عام هي خاطئة. وتبقى الحقيقة: لا أحد قام بتحليل جيد توقع أن يدعم حزب الله انتفاضة سورية ضد نظامٍ دعمَ المقاومة ضد إسرائيل، حتى ولو كان مستقلاً بشكل كامل عن الفاعلين الخارجيين.
أصدقاء المعارضة\\المعارضات
إن قائمة الأصدقاء المزعومين للثورة السورية، طويلة وتتسلسل من الدميم إلى المقيت إلى الحقير. ويجب ألا ننسى الدعم المندفع والقوي والمدمر لتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، كما لو أنه سبق لأي من هذه البلدان أن وضعت مصلحة سوريا الأفضل في أذهانها، أو كان لديها ذرة اهتمام بإنشاء معارضة ديمقراطية مستقلة. إن العكس هو الصحيح في الحالتين.
لقد دعمت جميع هذه البلدان، كما هو معروف، النظام السوري قبل الانتفاضة حين كان يضع بوطه على عنق شعبه. فضلاً عن ذلك، كانت كلٌّ من هذه الدول ترغب في الأسابيع الأولى من الانتفاضة بالوصول إلى صفقة مع النظام السوري تطيل بالنتيجة من عمر الديكتاتورية مقابل مجموعة من التسويات التي تخدم مصالحها الفعلية التي اختبرها الزمن والداعمة للدكتاتورية. يعرف هذا كثيرون في صفوف المعارضة على جميع المستويات، ويحتقرون سرياً هؤلاء “الحلفاء الرجعيين”. وسمع بعضنا تصريحات كهذه من منشقين (من صفوف المعارضة) فيما بعد، وسمعها بعضنا حين عانقهم هؤلاء الفاعلون. وعلى أي حال، تجاهلت كلّ مجموعات المعارضة المعنى الضمني لتواطؤ “الحلفاء” على أرضية أنها بحاجة للحصول على مساعدة ودعم من مكان ما. وقد حصلت على الدعم، لغايات جعلت عجزها المزعوم سابقاً شاحباً بالمقارنة.
عاملتْ الأنظمة العربية المحافظة والغنية بالنفط، والداعمة للمعارضة السورية، سكانها لعقود (سواء كانوا مواطنين أو مهاجرين) بطرق تستحق الشجب، وغالباً ما عاملتهم كقطيع من الماشية (وخاصة العمال). وأكيد أن القائمة تشتمل على بلدان أصغر ثرية جداً مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، ولا “تحتاج” إلى استرقاق الكائنات البشرية. مع ذلك، إنها تريد أيضاً أن تقاتل من أجل الديمقراطية للسوريين. وينطبق الأمر نفسه على المملكة العربية السعودية صاحبة سجل حقوق الإنسان المدان، وهي مُلهم ونموذج لطرق الإعدام والتعذيب التي ينفّذها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ولا يقاطع فكاهة المواقف العامة لهذه الأنظمة إلا الخطأ الفادح في حساباتها الذي ارتكبته في دعم سياسات عادت كي تسكنها: فرانكشتاين يتنامى، يحاكي مظاهر من هذه الأنظمة نفسها. إن هذه الدول، التي تقوم بوقفة ما كي لا تقوّي تنظيم الدولة الإسلامية بشكل غير مقصود، من المحتمل أن تعود إلى مفاقمة الدمار في سوريا متظاهرة بدعم المعارضة “المعتدلة”.
دمرت الولايات المتحدة الأميركية العراق، ليس مرة بل مرتين. دمرت النسيج البشري للبلاد قبل الغزو باثني عشر عاماً من العقوبات الاقتصادية الخانقة التي ألحقت أضراراً لانهائية بالسكان. أنتجت هذه الحروب والعقوبات فوضى وحشية بشكل أكثر إزعاجاً، “الانفجار الكوني”، الذي تعاني منه بقية المنطقة بأشكال مختلفة. وفي هذا السياق، إن تنظيم الدولة الإسلامية هو أحد المنتجات.
لقد أُلحق كل هذا الأذى بالبلد الجار لسوريا، العراق، الدولة التي حكمها دكتاتور متوحش دعمته الولايات المتحدة قبل سنوات. لماذا، إذاً، ستقوم دولة عظمى، نسّقت وشاركت في وحشية كهذه بالاهتمام بأي نزر يسير من اللياقة الإنسانية في البلد المجاور سوريا؟ إن المراهنة على الولايات المتحدة لدعم أية قيمة إنسانية في المنطقة يمكن أن تهدد بشكل مباشر أو غير مباشر حلفاءها (إسرائيل العنصرية والدكتاتوريات العربية) هو كمثل المراهنة على طالبان لتطوير حكم نسوي. مع ذلك، يواصل كثيرون فعل هذا بالضبط، سواء بسبب العجز والسذاجة، أو الانتهازية. ما من حاجة هنا لإلقاء الضوء على السجل التدميري الكامل لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة في نصف القرن السابق. يكفينا القول إنه رغم الأكاذيب التي يروجها المسؤولون الأميركيون، لم تسهم أية بلاد أخرى بهذا القدر، حتى ولو أحياناً دون رغبة، في دعم الدكتاتوريات والمتطرفين، والتطهير العرقي (في حالة إسرائيل وفلسطين) كما هو معروف. لا يستحق سجل الولايات المتحدة وحده الشجب، بل كل شيء في سلوك السياسة الخارجية الأميركية، سواء من ناحية تدخل الناتو في ليبيا، ودعم الانقلاب الاستبدادي في مصر، ودعم إخماد الانتفاضة في البحرين، والسياسة الأميركية غير المثمرة في سوريا، كل هذا يتحدث عن مواصلة سياسات وحشية غير مبدئية في المنطقة.
يجب ألا ننسى أن جميع هذه الأنظمة العربية والنظام الأميركي لن يدعموا أية نتيجة تضر بقدرتهم على مواصلة الهيمنة على المنطقة. وينطبق هذا على مشاركين صامتين كإسرائيل، التي ستبزغ كرابح وحيد في حال تم التخلص من كل من يتحدى عدوانها العسكري في المنطقة، مما يجعل أيضاً مصر والأردن ودول الخليج العربي شركاء راغبين في وجودها الاستيطاني الكولونيالي. وإذا ما حكمنا من تاريخ التفاعل (أو غيابه) بين دول الخليج وإسرائيل، نجد أن هذه صيغة ملائمة تنسجم جيداً مع مصلحة الولايات المتحدة في التعامل مع دول عربية مذعنة. لماذا يجب أن يتوقع أي شخص أن يُقَاطَع هذا الترتيب من أجل ثورة سورية حقيقية، سواء كانت إسلامية أو إلحادية، اشتراكية أو رأسمالية؟
إن الهجوم الأخير والمتواصل على اليمن من قبل الفاعلين أنفسهم، والذي تقوده المملكة العربية السعودية هذه المرة، يبين أن الوحشية نفسها يمكن أن تُسلَّطَ على أية بلاد\\فاعل ينجح في التملص من سيطرة هؤلاء الفاعلين و\\أو يقاطع حكمهم\\هيمنتهم. هؤلاء هم أصدقاء الثورة السورية، الذين يتركون الغالبية الساحقة من السوريين العاديين عالقين بين هؤلاء الفاعلين، والنظام السوري، والتكفيريين المتعصبين.
المعارضة
منذ المراحل الأولى، كان الإنشاء السريع على نحو إعجازي لمعارضة سورية باسم المجلس الوطني السوري، وكذلك لخلفائه المستقلين وغير الفعالين بشكل مساو، كارثة حقيقية لأية حركة تسعى للإطاحة بالحكم الاستبدادي. ونجم هذا جزئياً عن محاكاة بعض ممارساته وخاصة المحسوبية والفساد وغياب الشفافية، لكنه نجم بشكل رئيسي عن فشله في تطوير منصة مستقلة تشمل جميع مجموعات المعارضة السورية المحتملة، بما فيه تلك التي رفضت أن يكون لها أسياد خارجيون والتدخل الأجنبي في سوريا. ساعد هؤلاء المنتفضون الأوائل في نصب خشبة المسرح لما جاء تالياً أثناء النصف الثاني من 2011 ونضج في 2012 و2013( هم والجيش الحر الموجود في كل مكان والذي من الصعب العثور عليه أيضاً، ما يُسمى غالباً المعارضة السورية العلمانية، وبالتأكيد وحشية النظام التي لا تتوقف): وأعني العَسْكَرة التي اخترقت الانتفاضة وواصلت خدمة ونفخ صفوف الجماعات المتطرفة التي سحبت في النهاية البساط من تحت أي مفهوم لائق لانتفاضة جماعية.
إن الحجج التي تركز حصرياً على دور النظام في عسكرة الصراع لا تأخذ في عين الاعتبار الصعود السريع جداً للعنف الذي إما شُجِّعَ أو فلت من السيطرة من الجانب الآخر، مترافقاً مع التدفق الخارجي للدعم المادي من المشتبه بهم المعتادين والمذكورين أعلاه. وطورت بعض فصائل المعارضة الأخرى أجنحتها العسكرية قبل، أو دون تطوير حركة، مما أسهم في رَدْكَلة وتقويض الانتفاضة أكثر مما أسهم في التخلص من النظام. أما تعامل بعض المتشددين متنوع الأشكال مع إسرائيل على أرضيات مختلفة فليس إشارة تحذير فحسب، بل يشكل مؤشراً جيداً حول إلى أين ستتجه البلاد تحت سيطرتهم إذا ما هيمنت هذه الجماعات المعينة.
كيف يمكن أن تسود مجموعات معارضة كهذه إذا كان داعموها جميعاً مريعين، وهم على الصعيد العالمي أكثر وحشية، كالنظام الذي تحاول التخلص منه. وكما قلنا في البداية، لا يعني هذا القول إن “المعارضة” وكل داعميها هم من لون واحد، أو مسؤولون بشكل مساو عن الفوضى والعنف والإجرام الذي انتشر. بالمقارنة مع ما يود البعض تصديقه، إن ملايين السوريين ما يزالون يعارضون النظام بشدة، وتماماً مثل أولئك الذين وقعوا في مصيدة النظام على أنه الأقل شراً بين خيارات أخرى، إن تلك الأجزاء الأخرى من السوريين وقعت في مصيدة الأنواع الموجودة من المعارضة المسلحة. لكن ما يزال كثيرون يقاومون ويبنون بطريقتهم بصرف النظر، في جميع الجوانب، وهؤلاء هن الذين سيشكلون مستقبل سوريا كما يأمل المرء دوماً؛ لا النظام والمحسوبون عليه ولا المعارضة المسلحة، ولا “قادة” المعارضة المدنية المقيمون في الدوحة واسطنبول.
عامل تنظيم الدولة الإسلامية*
أخيراً، إن عامل تنظيم الدولة الإسلامية جزء من حل محتمل في سوريا، وعامل إقليمي لا يقتصر بالتأكيد على حل الأزمة في تلك البلاد. ومنذ بداية الصعود النيزكي لتنظيم الدولة، حذر كثيرون منا من تبني مواقف متطرفة حيال مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية. في هذه المجلة نفسها (جدلية) حذّرتُ في أيلول ٢٠١٤ من فرضية استيلاء بالجملة لتنظيم الدولة، ومن رفض صعوده كحالة عابرة. وتبين الدروس التي تم تعلمها من ظاهرة تنظيم الدولة بوضوح شديد تأثير مزيج عدوان القوة العظمى الخارجي والقمع الداخلي والاستغلال الاقتصادي. وإنه لمن المضحك كيف يُرجع المحللون الموالون للنظام صعود الإسلاميين الراديكاليين بشكل رئيسي إلى التدخل الخارجي وكيف يرجعه الموالون للمعارضة إلى قمع النظام. إن ما يلي سيركز النقاش على سوريا.
لم يمتلك الإسلاميون في سوريا أي موقع سياسي بعد المجزرة التي ارتكبها النظام في حماة. ففي العقد السابق، دعم التمويل العربي (والقادم بشكل لافت من المملكة العربية السعودية) بثبات النشاط والتشابك الإسلامي “الثقافي” والخيري. نتيجة لهذا، لم يكن التحول إلى الراديكالية يحتاج إلا إلى شرارة. إن قمع النظام الوحشي للاحتجاجات في البداية، والدعم القادم من “أصدقاء” سوريا (المذكورون أعلاه) للقتال ضد النظام، ضمنا أن التطييف سيتبع عسكرة الانتفاضة بسرعة، وقد ترأست الجماعات المتطرفة الجهد.
إن أعضاء المعارضة غير الإسلامية، الذين لم يتوقعوا التحول رغم التحذيرات الكثيرة، لم يميّزوا بين دعم جماعات إسلامية راديكالية كهذه ودعم معارضين آخرين للنظام. والآن فقط، لدى الاستعادة، يذهل هذا الافتقار للتمييز كثيرين (لا الجميع) بأنه غير مسؤول ومضاد للثورة. وقد حرف صعود تنظيم الدولة الإسلامية الأنظار عن التركيز على القتال ضد النظام السوري، واستنفد قدرات قتالية لمجموعات معارضة مختلفة، وشعّب الضغط الإقليمي والدولي والأولويات بخصوص الدور المحتمل للنظام السوري في أي حل، على الأقل في الوقت الحالي. وقد كانت سوريا، وجارتها العراق، ككيانين اجتماعيين وسياسيين تتعرضان للأذى التدريجي طول الوقت، مما يذكرنا بصعوبة النظر إلى الكارثة السورية كمسألة اجتماعية فحسب. يذكرنا هذا أيضاً بأن الدول التي عارضت نوعاً ما (بشكل مباشر أو غير مباشر أو مبدئي أم لا) الهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة وحلفائها المحليين مزقتها الحروب والغزوات. تشمل هذه القائمة سوريا والعراق وليبيا (رغم التقارب الليبي مع إدارة بوش قبل ٢٠٠٨). وربما كان حكامهما المتعاقبون السبب في تدمير سوريا والعراق. على أي حال، إن هذا التدمير دعمه في النهاية وشجعه (أو أداره مباشرة وبشكل وحشي في حالة العراق) جميع أولئك اللاعبين. بالنسبة لهؤلاء اللاعبين، إن جميع الأصوات التي ترفض الهيمنة الخارجية مع لاعبين إقليميين مختارين كمستفيدين يجب أن يتم احتواؤهم. إن قول هذا ليس لغزاً ولا اكتشافاً. يجب ألا يُنسى هذا، حتى ولو أن الولايات المتحدة يمكن أن تبرم “صفقة” محتملة مع إيران. في النهاية، لماذا هذا (أو إيران) يجب أن يكون خارج صيغة الهيمنة؟
إن معظم اللاعبين الآخرين غير المناقشين أعلاه هم أقل أهمية أو منتجات عرضية للاعبين وللديناميات المذكورة. وفي جميع الحالات، إن تأثيرهم في المشهد السوري أقل مباشرة. وفي الصيغة الأفضل، إنهم موضوع دراسة أخرى.
الطريق الصعب إلى الأمام: مفارقة حل المآزق المدمِّرة
لا مهرب الآن من الحقيقة المحبطة بأنه لا يوجد أجوبة مقنعة في سوريا. فالحلول السريعة التي لا تتعامل مع التناقضات المذكورة أعلاه ستعاود إنتاج الشياطين نفسها، حتى ولو تأخر الوقت. لكن لم يضع كل شيء، طالما أننا لا نعلق آمالاً مفرطة على الفاعلين والديناميات التي سبق ذكرها. إن متطلبات حل قائم على التفاوض لإيقاف التدمير الحالي وتقويض المجتمع السوري تتناقض تماماً مع متطلبات الثورة. ثمة خيار سياسي يجب القيام به. لكنّ الأطراف كلها ليست مستعدة أو مقتنعة بهذه الحاجة، ذلك أن مصير جميع الأطراف مرتبط حالياً بفاعلين خارجيين.
في غضون ذلك، نستطيع فصل الاجتماعي عن السياسي من زاوية التحرك إلى الأمام. إن البعد الاجتماعي (استمرارية الحياة) ليس مضطراً لانتظار حل سياسي (أو حتى حل عسكري).
وإذا ما تحدثنا اجتماعياً، إن الفحص الدقيق لجهود إعادة البناء والإحياء يبين أنها لم تعد تستطيع البقاء كلية. لا يمكن أن تستند إلى صيغة واحدة أو حل واحد أو مصدر واحد. يجب أن تكون وظيفة مجموعة أنماط من الأفعال والجهود التي لا تحتاج إلى أن تكون منسجمة بالضرورة. إن فكرة أن هناك حاجة لوجود مركز هي غير مبررة وغير مرغوبة بقدر ما هي قمعية. وفي سياق تحركات لامركزية كهذه إلى الأمام، لن يكون هناك “كريمة” بل يمكن أن يكون هناك قالب حلوى.
بالتالي، إن الانخراط مع واحد أو أكثر من هذه الجهود المختلفة في إعادة البناء الاجتماعي التي تحدث اليوم، أحياناً على مستوى الحارة، هي طريقة مفيدة إلى الأمام لمعظم السوريين، وداعمي مجتمع سوري جديد وأكثر حرية. إن التعرف على بعض هذه الجهود، أو بذل جهد جديد، تحد ضروري لأي طرف راغب وقادر على أن يسهم في إرجاع سوريا عن حافة الهاوية ووضع أحجار البناء لأي مستقبل قابل للتحقيق. (سننشر في جدلية قائمة بهذه الجهود الاجتماعية والإنسانية رغم اختلاف مواقفها السياسية). إن الطريق إلى الأمام في هذه الأوقات الكئيبة في سوريا هو إحدى المبادرات المتواضعة والمحدودة نسبياً والتي هي غالباً معزولة عن بعضها البعض لكنها مع ذلك تراكمية، ولو أنها دون المستوى المطلوب وغير مقنعة لكثيرين. إن الأفق غير واضح بعد للمغامرة في دعم إعادة بناء على نطاق كبير، ويجب ألا نصخب من أجل ذلك خشية أن نستبدل شيطاناً بآخر.
وإذا ما تحدثنا سياسياً، إن الأجوبة هي دوماً أكثر صعوبة. ورغم أنه لا يوجد نقص في التحليل والمقالات والكتب وتقارير مراكز الأبحاث، فإن الجواب الأفضل نفسه الذي قدمه كثيرون منا في السابق ما يزال صالحاً: لا يوجد بديل، رغم صعوبة ذلك من زوايا عدة، لحل سياسي قائم على التفاوض يشمل جميع الأطراف المهتمة بسوريا ذات سيادة. عند هذه النقطة، إن حجة إن أطرافاً معينة يجب ألا تكون جزءاً من مستقبل سوريا، سواء كان النظام أو جبهة النصرة، بين آخرين، يجب أن تُدْرَس إزاء البديل، أي التخلي عن قطاعات واسعة من السكان الذين يجب أن يكونوا جزءاً من أي حل، بصرف النظر عمن يمثل مصالحهم. إن النظام، مثلاً، ليس فقط النظام والمحسوبين المباشرين عليه. فهو يجسّد، بالنسبة لسوريين كثيرين، سترة نجاة، في السراء والضراء. وثمة منطق مشابه ينطبق على المجموعات الأخرى.
يجب أن تُبذل جهود متضافرة للتشديد على الفرق بين من يمثل مصالح المرء اليوم ومن يمثل مصالح سوريا الأفضل كدولة. إن الحقيقة هي أن الجواب على الشق الأول مختلف بشكل كبير من الجواب على الشق الثاني بحسب معظم السوريين. ذلك أن داعمي هذا الجانب أو ذاك أو النظام أو تلك المجموعة اليوم في سوريا لا يختارون بين كثير من البدائل أو حتى البدائل الجيدة. إنهم أيضاً عالقون إلى حد كبير. بالتالي، بما أن الأفراد والمجموعات ترفض إقحام هذا الطرف أو ذاك، فإنهم يرفضون ما يقارب ربع أو ثلث أو نصف السكان، بشكل غير مقصود أو مقصود، لكن أكيد بشكل غير منتج.
علاوة على ذلك، إن رفض إقحام أطراف أخرى في التفاوض، أو الدعوة إلى القضاء عليها، له ثمن. إن انهياراً لكل مظهر من مظاهر الدولة هو طريقة غير مسؤولة تعرقل الانطلاق إلى الأمام في الظروف الحالية والتي يمكن التنبؤ بها. أما رفض مشاركة الأطراف التي على الأرض بحجة أنها رجعية أو مرتبطة مع الفاعلين الخارجيين فيمكن أن يجعل الحل بلا معنى رياضياً، نظراً للعلاقات الكثيفة بين المعارضة (والنظام أيضاً) والفاعلين الخارجيين. سيكون هناك طريق طويل إلى الأمام أمام الأطراف الداخلية للصراع كي تدرك أن النتيجة التي دون المستوى هي خيارها المفضل. (إن تنظيم الدولة غير مضمّن هنا لأنه حتى الآن غير مهتم بجعل تحديقته أو طموحه يقتصران على سوريا).
إن السبب في عدم وجود أجوبة سهلة في سوريا هو أنه حتى هذا الحل الذي من المحتمل أن يعمل يتطلب مشاركة وإيمان المجموعة نفسها من البلدان الأجنبية التي هي جزء من المشكلة لدى جميع الأطراف. مع ذلك، هذا طريق أفضل بكثير، وربما أكثر مسؤولية من الرعاية الأحادية الجانب لمحصّلة، آخذين بعين الاعتبار الإمكانيات المتوفرة. على أي حال، يتطلب الأمر شيئاً أقرب إلى المعجزة في الظروف الحالية لإقناع القوى الخارجية بأن كلفة تضييع حل قائم على التفاوض يشمل جميع الأطراف، والتسويات التي سيكون عليهم في النهاية أن يقدموها ويقوموا بها هي في الواقع، أعلى مما يستطيعون تقديمه، ومع أن هذا يبدو كئيباً، يمكن أن يتطلب الأمر تحولاً هائلاً، أو حدثاً هائلاً، في المشهد السوري وحوله للحث على تبني هذا المنطق البسيط ولو أنه بعيد الاحتمال.
(كُتب هذا المقال في آذار\\نيسان 2015)
ترجمة: أسامة إسبر